الاثنين، 3 سبتمبر 2012

دورالافتاء  في مکافحة الارهاب والغلو والتطرف
         ان الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرورأنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ان لا اله لا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، امابعد!
         سيدي الرئيس المبجل لهذا الحفل الکرسم، أصحاب الفضيلة والسعادة، هذه مقالة وجيزة عن دورالافتاء  في مكافحة الارهاب والغلو والتطرف.
         الفتوی لغة: الفتوی اصله الفاء والتاء والحرف المعتل الياء (فتی) وهذا الأصل يدل علی تبيين الحکم، فيقال:افتی الفقيه في المسألة فتاء، اذا بيّن حکمها، واستفيتَ اذا سألتَ عن الحکم. (معجم مقاييس اللغة:4/٤٧٣-٤٧٤)
         قال الازهري : افتی الرجل فی المسألة واستفتيته فيها فأفتاني فتاء، والفتيا والفتوی: إسمان يوضعان موضع الفتائ. وقال ابن منظور: يقال:افتاه في المسألة يفتيه:اذا أجابه، والاسم: الفتوی.
         فالافتاء في اللغة:الإبانة والجابة عن السؤال.
         الفتوی اصطلاحا:اما تعريف الفتوی في الاصطلاح فقال القرافي: انها خبار عن حکم الله تعالی (الفروق:4/١٢٠) واختار مجمع الفقه الاسلامي الدولي في الدورة السابعة عشرة تعريف الافتاء بأنه: بيان الحکم الشرعي عند السؤال عنه، وقد يکون بغير سؤال ببيان حکم النازلة لتصحيح اوضاع الناس وتصرفاته. (قرارات مجمع الفقه الاسلامي في الدورة السابعة عشرة قرار رقم:١٥٣(١٧٢) بشان الافتاء :شروطه وآدابه)
          وقيل: انها الاخبار عن حکم شرعي لا علی وجه الالزام.(مواهب الجليل:٣٢١)
          وتقييدها:”بـ لا علی وجه الالزام“ للتفريق بين الفتوی والقضاء، أو بين القاضي والمفتي. قال ابن عثيمين:”القاضي يمتاز عن المفتي بأمرين: الفصل والالزام، ای الفصل بين المتخاصمين، لان القاضي لا ياتي اليه الا المتخاصمون، اما الذي يستفتي فقط فهو يذهب الی العلماء، فالقاضي مخبر عن حکم شرعي قاض به يعنی ملزما به بين المتخاصمين، فميزاته أعظم من المفتی، ولهذا فحکم القاضي يرفع الخلافَ، وفتویٰ المفتي لا ترفع الخلاف، فاذا اختصم رجلان الی القاضي فحَکم بينه نفذ الحکم واُلْزِمَ الخصمان به الزاما ، ولا يمکن ان ينفکا عنه.
          أما المفتي: فهو رجل مخبر عن حکم، فان سئل ما حکم الله في کذا ؟ قال:الحکم کذا وکذا“(شرح الاصول من علم الاصول:ص٦٠٠)
         وذکر في توصيات مجمع الفقه الاسلامي الدولي في دورته السابعة عشرة أن الأصل في الفتوی انها غير ملزمة قضاء، الا انها ملزمة ديانة، فلا يسع المسلم مخالفتها اذا قامت الادلة الواضحة علی صحتها، ويجب علی المؤسسات المالية الاسلامية التنفيذ بفتاوی هئياتها الشرعية في اطار قرارات المجامع الفقهية.
         فخلاصة تعريفات العلماء للفتوی: ”انها الاخبار بحکم الله تعالی عن دليل شرعي، وانها غير ملزمة قضاء لکنها ملزمة ديانة“.
         أما المفتی: فقال ابن حمدان: ”المفتی هو المخبر بحکم الله تعالی لمعرفته بدليله. وقيل: هو المخبر عن الله بحکمه. وقيل: هو المتمکن من معرفة احکام الوقائع شرعا بالدليل مع حفظه لأکثر الفقه“.
         واختار مجمع الفقه الاسلامي الدولي تعريف المفتي بأنه: ”هو العالم بالاحکام الشرعية للقضايا والحوادث ، والذی رزق من العلم والقدرة ما يستطيع به استنباط الاحکام الشرعية من أدلتها، وتنزيلها علی الوقائع والقضايا الحادثة“.
أهمية الفتوی ومقام المفتي: قال الامام ابن القيم: ”واذا کان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينکر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلی المراتب السنيات، فکيف بمنصب التوقيع عن رب الارض والسموات ؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعِدَّ له عُدَّتَه، وان يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يکون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فان الله ناصره وهاديه، وکيف هو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالی:﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ (النساء :١٢٧) وکفی بما تولاه الله تعالی بنفسه شرفا وجلالة، اذ يقول في کتابه:﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾(النساء: ١٧٦) وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن انه مسئول غدا وموقوف بين يدی الله“. (اعلام الموقعين :١٦١)
         ومن هنا تبين ان الفتوی امرعظيم، لانها بيان لشرع رب العالمين، والمفتي يوقّع عن الله تعالی في حکمه ويقتدی برسول الله @ في بيان أحکام الشريعة.
         ولذلك لا بد للمفتي العلم بکتاب الله وسنة رسوله @ وما يتعلق بهما من علوم، فلا بد له من معرفة تفسير آيات الاحکام والاحاديث الواردة فيها، لأنه لا يمکنه استنباط الأحکام الا بمعرفة هذين الأمرين، وکذلك لا بد من معرفة الناسخ والمنسوخ من الکتاب والسنة لئلا يحکم بالمنسوخ الذی ترك العمل به، ويترك الناسخ المعمول به فيبطل الحکم ، ولابد له ايضا من معرفة اسباب النزول للآيات وأسباب ورود الاحاديث ليعلم الباعث علی الحکم، ويفهم المراد الصحيح. ولا بد له من معرفة شروط المتواتر والآحاد ليقدم الاول عند التعارض ، ولا بد من معرفة الاحاديث الصحيحة من الضعيفة ليستدل بالصحيح ويطرح الضعيف.
          ولا بد من معرفة اصول الفقه وقواعده فان المعرفة باصول الفقه تعين علی معرفة الدليل وکيفية الاستدلال والاستنباط والتعليل، ولا بد من العلم بمقاصد الشريعة، لانها هي الغاية التي راعاها الله عز وجل في تشريع أحکامه، فيقدم درء المفاسد علی جلب المنافع، واذا تزاحمت المصالح قدم الاعلی منها علی الادنی، وکذلك لا بد له من المعرفة بالقدر اللازم من النحو والصرف والبلاغة واللغة وغيرها من العلوم حتی يفهم النصوص علی الوجه الصحيح، وينظر في الدليل نظرا صحيحا، ويستخرج منه الاحکام استخراجا قويا.
         وکذلك يشترط للمفتي المعرفة بأحوال الناس وأعرافهم، وأوضاع العصر ومستجدّاته، ومراعاةُ تغيرها فيما بنی علی العرف الذي لا يصادم النص، وتَخَلُّفُ هذا الشرط يسفر عن خلل کبير، وزلل عظيم في الفتوی کما هو مشاهد في کثير من الفتاوی المتعلقه بواقع احوال بلاد المسلمين. وکذلك لا بد له من القدرة علی استنباط الأحکام واستخراج المسائل من النصوص الشرعية وادلتها الاجمالية والتفصيلية، وکذلك يجب علی المفتي الرجوع الی اهل الخبرة والمعرفة في التخصصات المختلفة لِتَصوُّرِ المسألة المسئول عنها کالمسائل الطبية والاقتصادية، وهذا امر مهم جدا، و قد يقع في خطا فاحش من يغفل عن هذا الشرط ممن تصدّر للافتاء، وهذا ملموس في بعض الفتاوی.
         ويجب علی المفتی ان يکون عالما بما يفتی به، متأنيا في جوابه عن المتشابهات والمسائل المشکلة فقدحذر الله عز وجل عن القول بغيرعلم، والفتوی بدون دليل، فقال تعالی: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ (النحل:١١٦) وقال تعالی:﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾(الاسراء:٣٦) وقال :﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (الاعراف:٣٣)
         وقال ابن القيم: ”فرتب المحرمات اربع مراتب، وبدأ بأسهلها هو الفواحش، ثم ثنیّ بما هو اشد تحريما منه، وهو الاثم والظلم، ثم ثلّث بما هو اعظم تحريما منهما، وهو الشرك به سبحانه، ثم رَبَّع بما هو اشد تحريما من ذلك کله ، وهو القول بلا علم ، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسماءه وصفاته، وفی دينه وشرعه“.(اعلام الموقعين:٧٣١)
         وقال رسول الله@:”مَنْ أُفْتِىَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ“. (اخرجه ابو داود :كتاب العلم باب التوقى فى الفتيا 3/359, وابن ماجه : كتاب الإيمان باب اجتناب الرأي والقياس 1/20، وحسنه الالبانی في صحيح ابي داود (٤١٠٢) وقد بوب عليه الامام ابو داود في سننه : ”باب التوقي في الفتيا“ , وقال العظيم آبادي: والمعنی هذا باب في الاحتراز عن الفتوی في الواقعات والحوادث بغير علم، والاجتناب عن الشفاعة لصعاب المسائل التي هي غير نافعة في الدين، ويکثر فيها الغلط وفتح باب الشرور والفتن، فلا يفتي الا بعد العلم من الکتاب والسنة وآثار الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين. وقال رسول الله@:” ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من العباد ولکن بقبض العلماء حتی اذالم يبْقِ عالما اتخذ النّاسُ رؤوسا جهالا، فسئلوا فِأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا“.(متفق عليه, صحيح بخاري :كتاب العلم باب كيف يقبض العلم 1/36, صحيح مسلم :كتاب العلم باب رفع العلم وقبضه 8/60)
دور الافتاء في نشر الوسطية ومحاربة الغلو: اما دور الفتاء في نشر الوسطية و محاربة الغلو فقد تقدم ان الافتاء هو الاخبار بحکم الله عن دليل شرعي أو انه بيان الحکم الشرعي عند السؤال عنه وقد يکون بغير سؤال ببيان حکم النازلة لتصحيح اوضاع الناس وتصرفاتهم'' و اذا نظرنا الی نصوص الشرع فانه يتبين لنا ان الدين الاسلامي دين الوسطية والاعتدال، وان هذه الامة امة وسط، قال الله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(البقرة:١٤٣) وقال ابن کثير: الوسط هنا الخيار والأجود، کما يقال :قريش أوسط العرب نسبا ودارا، ای خيرها، وکان رسول الله @ وسطاً في قومه، ای اشرفهم نسبا، ومنه الصلاة الوسطی التي هي أفضل الصلوات وهي العصر،کما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الامة وسطا خصها بأکمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب کما قال تعالی:﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (الحج: 78) وايضا الوسط: العدل، فقد روی البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه واحمد عن النبي @ في قوله تعالی:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ قال:عدلا.(انظر تفسير ابن کثير:1/٢٥١)
         وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدی: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ ای عدلا خيارا ، وما عدا الوسط فالأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطا في کل امور الدين، وسطا في الانبياء بين من غلا فيهم کالنصاری، وبين من جفاهم کاليهود، بأن آمنوا بِهم کلِّهم علی الوجه اللائق بذلك، ووسطا في الشريعة لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصاری، وفي باب الطهارة والمطاعم، لا کاليهود الذين لا تصحوا صلاتهم الا في بيعهم وکنائسهم، ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم الطيبات عقوبة  لهم ، ولا کالنصاری الذين لا ينجسون شيئا ولا يحرمون شيئا، بل اباحوا ما دب ودرج، بل طهارتهم اکمل طهارة واتمها.
         واباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناکح، وحرم عليهم الخبائث من ذلك، فلهذه الامة من الدين اکمله، ومن الاخلاق اجلّها، ومن الاعمال افضلها، ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والاحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك کانوا ”امة وسطا“ کاملين معتدلين، ليکونوا ﴿شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ بسبب  عدالتهم وحکمهم بالقسط، يحکمون علی الناس من سائر الاديان، ولايحکم عليهم غيرهم، فمن شهدت له هذه الامة بالقبول فهو مقبول، وما شهدت له بالرد فهو مردود.(تفسير الکريم الرحمن للسعدی:٧٢١)
         واما الغلو الذي هو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد فمنهي عنه في الکتاب والسنة، قال تعالی:﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ (النساء:١٧١)
         وقال فی موضع آخر:﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ (المائدة:٧٧)
         وقال ابن کثير: ينهی تعالی اهل الکتاب من الغلو والاطراء، وهذا کثير في النصاری، فانهم تجاوزوا الحد في عيسی حتی رفعوه فوق المنزلة التي اعطاه الله اياه، فنقلوا من حيز النبوة الی أن اتخذوه إلها من دون الله، يعبدونه کما يعبدونه، بل غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم انه علی دينه، فادعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في کل ما قالوه، سواء کان حقا او باطلا، او ضلالا أوارشادا ، أوصحيحا او کذبا، ولهذا قال الله تعالی:﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (التوبة:31)
         اقول وإن کان خطاب النهي عن الغلو في الآيتين موجها الی اهل الکتاب، لکن المسلمين داخلون فيه، فقد صح عن النبي @ انه قال:”لاتطروني کما أطرت النصاری عيسی بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسولُه“.(رواه البخاري :كتاب الأنبياء باب ﴿ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها 4/204﴾ واحمد : 1/55 وغرهما) وعن عبد الله بن عباس قال قال رسول الله@ : ” غداة جُمع هلُمّ لقَطْ لِیَ الحصی، فلَقِتُّ له حصات من حصی الخذف، فلما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هولاء ، وإياکم والغلو في الدين ، فانما أهلك من کان قبلکم  الغلو في الدين“. (رواه احمد وابن خزيمة والنسائي وابن ماجه وصححه ابن تيمية في القتضاء الصراط المستقيم 1/٢٨٩)، وقال ان تيمية: ”هذا عام في جميع انواع الغلو في الاعتقادات والاعمال“.
         وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله@:”هلك المتنطعون“ قالها ثلاثاً. (رواه مسلم :كتاب العلم باب هلك المتنطعون 8/58 , وابو داود :كتاب السنة باب فى لزوم السنة 4/330 , واحمد :1/386) وقال النووي: ”المتنطعون:اي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في اقوالهم وافعالهم“.(شرح النووي:16/٢٢٠) وعن انس بن مالك ان رسول الله @ کان يقول :”لا تشددوا علی انفسکم فيشدد الله عليکم، فان قوما شددوا فشدد الله عليهم، فتلک بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانيةً ابتدعوها ما کتبناها عليهم“.(اخرجه ابو داود :كتاب الأدب باب فى الحسد 4/428 , وابو يعلی: 6/٣٦٥ وقال محققه:اسناده حسن)
         وعن ابي سعيد الخدري في قصة الرجل الذي اعترض علی قسمة النبي @ وعطائه صناديد نجد اکثر من غيرهم وفيه: ثم ادبر الرجل فاستاذن رجل من القوم في قتله فقال النبي@:”إن من ضئضئی هذا قوما يقرئون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ويقتلون اهل الاسلام، ويدعون أهل الاوثان“.(متفق عليه صحيح بخاري: كتاب التوحيد باب قول الله تعالى ﴿ تعرج الملائكة والروح إليه﴾ 9/155 , صحيح مسلم : كتاب الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم 3/110)
         وعن انس بن مالك قال:”جاء ثلاثة رهط الی بيوت ازواج النبي@ يسألونه عن عبادته، فلما اُخبِرُوا کأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي @؟ قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال احدهم: اما انا فأصلي الليل ابدا ، وقال الآخر: اصوم الدهر ولا اُفطر، وقال الآخر:أنا أعتزل النساء فلا اتزوج أبدا، فجاء هم رسولُ الله @ فقال:اني أخشاکم لله وأتقاکم له، ولکني اصوم وافطر، واصلي وارقد، واتزوج النساء، فمن رغب  عن سنتي فليس مني“. (متفق عليه صحيح بخاري : كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح 7/2 , كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة 4/129)
         وعن ابن عباس قال:بينما کان النبي @ يخطب اذاً برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: ابواسرائيل، نذر ان يقوم في الشمس، ولا يقعد ولا يستظل، ولا يتکلم ويصوم، فقال النبي@: ”مروه فليتکلم وليستظل وليقعد وليتم صومه“(رواه البخاري :كتاب الأيمان والنذور في باب النذور فيما لا يملک وفي معصيته 8/178)
         وعن انس بن مالك رضي الله عنه قال:دخل النبي @ فاذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فاذا فترت تعلقت، فقال النبي @ : ”لا، حلّوه، ليصَلِّ أحدُکم نشاطه، فاذا فتر فليقعد“.(رواه البخاري :كتاب التهجد باب ما يکره من التشديد في الصلاة 2/67 (٣٦١)
         وعن عائشة رضي الله عنها قالت :کانت عندي امرأة من بني اسد، فدخل عليّ رسول الله @ فقال : من هذه؟ قلت فلانة ،لا تنام الليل، تذکر من صلاتها. فقال : ” مه عليکم ما تطيقون من الاعمال، فان الله لا يمل حتی تملوا“.(رواه البخاري : كتاب الإيمان باب أحب الدين إلى الله أدومه 1/17)
         وقال تعالی:﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ (الإسراء :110) وقال:﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ (لقمان:19) وقال:﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ (الفرقان:67) وقال:﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ (الإسراء:29)
         ايها المستمعون! ان هذه الآيات والاحاديث الصحيحة تدل دلالة واضحة ان الاسلام دين الوسطية، وأن الامة الاسلامية امة وسط، وأنَّ الإسلام قد حرم الغلو والتطرف في الدين، سواء کان ذلك الغلو في الانبياء والصالحين أو في الاولياء وائمة الدين، وسواء کان في العبادات من الصلاة والصوم ونفاق المال، او بالزام النفس بما لم يوجبه الله عبادة وترهبا، وبما فيه يذاء للنفس بدون فائدة، وسواء کان بتحريم الطيببات التي اباحها الله وترکِها علی وجه التعبد، کترك اکل اللحم وشرب المشروبات اللذيذة ولبس الثياب الفاخرة, وسواء کان بترك الضروريات ،کترك الأکل والشرب والنوم واللباس، والجلوس والاستظلال, وسواء کان الغلو في المدح والطراء کما فعل الغلاة في مدح النبي @ والائمة والاولياء، أو کان في الذم کتکفير المسلم أو جماعة مسلمة واتهامهم بالمروق والخروج من الدين وکذلك وصف مجتمع المسلمين بأنه مجتمع جاهلی، وسواء کان في الاماکن کزيارة مقابر الانبياء والصالحين تبرکا، وطوافها وتقبيلها والذبح والدعاء وقراة القرآن وتوزيع الصدقات عندها ، او في الايام کالاحتفال بعيد ميلاد النبي @ وبعيد الاسراء والمعراج.
         والراسخون في العلم وأصحاب الافتاء دائما يمنعون الناس من الغلو والتطرف، وقتل الأبرياء وبثّ الرعب والفساد في الارض، ويبينون ان الحق بين الافراط والتفريط، وان الغلو حرام ومُهلك لهم وللأمة الاسلامية، لأنه مشاقة لهدی الاسلام، وإعراض عن منهجه في التوسط والاعتدال والرحمة والشفقة والرفق، فقد قال الله تعالی:﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج:78) وقال النبي @:”ان الدين يسر، ولن يشاد الدين احد لا غلبه، فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة“. (رواه البخاري :كتاب الإيمان باب الدين يسر 1/16)
         وفيه ظلم علی نفسه وقسوة علی ذاته، ومآل کثير من الغلو الهلاك أو المشقة في الحال أو في المآل . وقد نهی الله عز وجل عنه  فقال:﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة:195) وقال:﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ (النساء : 29)
         وفيه صد عن سبيل الله، وتشويه لصورة الاسلام وتنفير الناس عنه، وفيه الفتنة والهلاك والدمار.
         وقد صدر عن العلماء فتاوی وبياناتُ لتوضيح الموقف الشرعي من وقائع أحداث الغلو، فقد أصدر مجلس هيئة کبار العلماء بالمملکة العربية السعودية في دورته الثانية والثلاثين المنعقدة في مدينة الطائف بتاريخ12/1/1409هـ بناء علی ما ثبت لديه من وقوع عدة حوادث تخريب ذهب ضحيتها الکثير من الناس الابرياء وتلف بسببها کثير من الأموال والممتلکات والمنشآت العامة فی کثير من البلاد الاسلامية وغيرها.
قرار رقم ١٤٨ بالاجماع ما يلی:
         اولاً :من ثبت شرعا انه قام بعمل من الأعمال التخريبية والفساد في الأرض، التي تزعزع الأمن، بالاعتداء علی الأنفس والممتلکات الخاصة والعامة، کنسف المساکن، والمساجد، والمدارس، والمستشفيات، والمصانع، والجسور، ومخازن الأسلحة، والمياه، والموارد العامة لبيت المال، کأنابيب البترول، ونسف الطائرات أو خطفها ونحو ذلك، فإن عقوبته القتل لدلالة الآيات المتقدمة علی أن مثل هذا الفساد في الارض، يقتضي اهدار دم المفسد. ولان خطر هؤلاء الذين يقومون بالاعمال التخريبية وضررهم أشد من خطر وضرر الذي يقطع الطريق، فيعتدي علی شخص فيقتله أو ياخذ ماله، وقد حکم الله عليه بما ذکر فی آية الحرابة.
         ثانيا: أنه لا بد قبل يقاع العقوبة المشار اليها في الفقرة السابقة من استکمال الاجراءات الثبوتية اللازمة من جهة المحاکم الشرعية ، وهيئات التمييز، ومجلس القضاء الاعلی، براء ةً للذمة واحتياطاً للأنفس ، واشعارا بما عليه هذه البلاد من التقيد بکافة الاجراءات اللازمة شرعا لثبوت الجرائم وتقرير عقابها.
         ثالثا: يری المجلس إعلان هذه العقوبة عن طريق وسائل الاعلام. وصلی الله وسلم علی عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه. (مشکلة الغلو في الدين:3/١٠٢٩ )   
         کما صدربيان ثان عن هيئة کبار العلماء بالمملکة العربية السعودية بتاريخ 22/6/1416هـ عقب التفجير الذي وقع بمدينة الرياض، وبيان ثالث بتاريخ 13/2/1417هـ عقب حادثة التفجير في مدينة الخبر بالمنطقة الشرقية بالمملکة .
         وبين کثير من العلماء الکبار بالمملکة برائة الاسلام من الغلو والعنف، مثل فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان عضوهيئة کبار العلماء ورءيس مجلس القضاء الاعلی بالمملکة، وفضيلة الدکتور عبد الله بن عبد المحسن الترکي عضو هيئة کبار العلماء بالمملکة والامين العام لرابطة العالم الاسلامي بمکة المکرمة ، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله الرئيس العام لادارت البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد سابقا، وفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وفضيلة الدکتور يوسف القرضاوي، والشيخ جاد الحق علی جاد الحق شيخ الازهر السابق , وکذلك جمعت جمعية اهل الحديث المرکزية بالهند فتاوی العلماء السلفين وطبعت باللغة الهندية، وصدر قرار بهذا الصدد في العام الماضي، وأصدر علماء دار العلوم بديوبند. وغيرهم الفتاوی والقرارات في التنديد والرد علی الغلو وأعمال العنف وبرائة الاسلام عنه، والمجمع الفقهي الاسلامي برابطة العالم الاسلامی ايضا أصدر قرارا في 19/10/1424هـ ضد الارهاب والغلو والتطرف، واصدر اعضاء المجمع الفقه الاسلامي بالرابطة بيانا باسم بيان مکة المکرمة أدانوا فيه الحملات المغرضة علی الاسلام والمسلمين والصاق تهمة الارهاب بالاسلام و بينوا موقف الاسلام عن الارهاب، والعلاج الاسلامي له، وکذلك أصدر المجمع الفقهي الاسلامي بالهند بيانا عن الاسلام والأمن في3/5/1425هـ في الدورة الرابعة عشره المنعقدة في حيدرآباد.
          وهکذا نری ان المفتيين واعضاء المجامع الفقهية الاسلامية قد أصدروا فتاوی وبيانات وقرارات ضد الغلو والارهاب والتطرف، ولعبت فتاواهم وقرارتهم وبياناتهم دورا هاما في تعريفه وتاريخه وبيان احکامه وخطورته واسبابه وعلاجه وموقف الاسلام والمسلمين منه. ومن هم وراء هذه الاشاعات؟ ومن هم الإرهابيون الحقيقيون؟ وما هي مخطاطهم؟ الخ . ومازالوا يحاربون ويکافحون هذه الظاهرة الخطيرة فجزاهم الله احسن الجزاء ورزقهم مزيدا من التوفيق والعمل والسداد وصلی الله وسلم علی نبينا محمد وعلی آله واصحابه اجمعين. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق