التوبة
في ضوء الکتاب والسنة
معنی التوبة :
التوبة في اللغة : الرجوع عن المعصية ، يقال :تاب فلان الی الله توبا
وتوبة وتابة ومتابا وتتوبة :رجع عن المعصية ، وهو
تائب وتواب ، ويقال:تاب الله عليه : وفقه
للتوبة ، او رجع به من التشديد الی التخفيف ، او رجع عليه بفضله وقبوله ، وهو
تواب علی عباده.
اهمية
التوبة:
ان التوبة لها اهمية کبيرة في الشريعة الاسلامية وفي
حياة الانسان ، فان الشيطان يجری من الانسان مجری الدم ، ويوسوس في نفسه
افکارا باطلة ، وخيالات فاسدة ، ويزين له الشهوات
والمعاصی ، ويحاول من طرق شتی ان يوقعه في
الذنوب ، ويضله عن
سواء الطريق ، وايضا معه النفس
الأمارة
بالسوء ، ولذلك نری کل انسان تصدر منه اخطاء
ومعاصی، ولا يعصم منها الا من عصمه الله ، وروی
الترمذي([1])
وابن ماجة([2])
والحاکم([3])
عن انس بن مالك قال: قال رسول الله @ :”کل
ابن آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون“.
وهذا الحديث يدل علی ان کل انسان يخطیء، سواء
کان هذا الخطأ صغيرا أو کبيرا، وسواء صدر منه عمدا أو
من غير عمد سهوا و نسيانا ، ثم بين ان خير الخطائين التوابون، لان هولاء الخطاؤن حينما
يتوبون الی الله ، ويندمون
علی أخطائهم ، ويستغفرونه ، فان
الله يرحمهم
ويعفو عنهم، قال الله تعالی :﴿وَمَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ
غَفُورًا رَحِيمًا﴾([4]) وقال:﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا
اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾([5]) وقال
:﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾([6])
اما الذي لم يتب وأصر علی
المعصية اسود
قلبه فعن
ابي هريرة قال:ان العبد اذا اخطأ خطيئة
نکتت في قلبه نکتة
سوداء ، فاذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه ، وان
عاد زيد فيها حتی تعلو قلبه، وهو
الران الذي ذکر الله ﴿كَلَّا
بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾([7])
فالتوبة لها اهمية عظيمة،
وفي الاعراض عنها خطر کبير ، قال الله تعالی:
﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ﴾([8]) ومعلوم
ان آدم عليه
السلام أخطأ فتاب فغفر الله له ، وصار
من عباده
المکرمين، وأما ابليس
فانه أخطأ ثم
اصرّ علی هذا الخطأ، فکان من الهالکين.
حکم
التوبة: قال العلماء :ان التوبة واجبة من کل ذنب ، قال الامام النووي رحمه الله :قد
تظاهرت دلائل الکتاب والسنة و اجماع الأمة علی
وجوب التوبة ، قال الله تعالی
: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ
الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([9]) وقال:
﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾([10]) وعن
الأغر بن يسار
المزنی قال: قال رسول اللّٰه @:”يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّى أَتُوبُ
فِى الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ“([11])وعن
عبد الله بن
عمر قال : إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ
-@- فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ ”رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَىَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ
“([12])
فاذا کان النبي @ يستغفر
الله کل يام
مائة مرة، وهو سيد ولد آدم ، وقد غفر الله له ما
تقدم من ذنبه وما
تأخر ، فکيف
بنا نحن الذين تصدر منهم أخطاء
کثيرة ليلا ونهارا, وهذه الأحاديث
تدل علی ان التوبة واجبة من کل ذنب، صغيرا کان أو کبيرا.
لا يجوز الاستخفاف بالصغائر: وايضا
يفهم من هذه
الاحاديث انه لا يجوز
الاستخفاف والاستهانة بالصغائر ، فانه من
المعروف أن النبي
@ لم يرتکب
کبيرة ابدا ، وانما صدر منه بعض
الأخطاء
التافهة قد نبّه الله عليها
فاستغفر وتاب ، ولأنه لا صغيرة
مع الاصرار، ولا کبيرة مع الاستغفار، وان الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم
المبالاة وترك الخوف من الله مع
الاستخفاف والاستصغار بها ، ما يلحقها بالکبائر، وقال العلماء :”لا تنظر الی صغر
المعصية ، ولکن
انظر الی من عصيت“ وأسلافنا الصالحون کانوا يخافون ويجتنون
الصغائر والکبائر علی حد سواء، فقد ذکر الامام البخاري عن انس قال:” إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ
مِنَ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
الْمُوبِقَاتِ“([13])
ای المهلکات, وعن ابن مسعود قال:”إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ
تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ
مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا“([14])-ای
بيده- فذبه عنه , ويقول
الرسول @ :”إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ
الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ ، وَجَاءَ ذَا
بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ
بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ
“([15]) وفي
رواية: ”إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ
عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ “([16])
فهذه
الادلة تدل علی انه لا يجوز الاستخفاف بالصغائر.
التوبة بدون ذنب: واذا
نظرنا الی قوله@ :” يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّى أَتُوبُ
فِى الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ“([17])
يفهم منه انه ليس
بضروري ان تکون التوبة بعد الخطأ، بل
قد تکون بدون خطأ عبادة وتقربا الی الله تعالی،
لأن
النبی @ کان يتوب
في اليوم مائة مرة ، ولا يتصور ابدا انه @ کان يخطيء
في اليوم مائة مرة ثم کان يتوب منه، فثبت
ان توبته مائة
مرة لم تکن لأجل
المعاصي والأخطاء، وانما
کانت عبادة وتقربا الی الله تعالی
، فالتوبة فريضة وعبادة وهي رحمة للعباد والبلاد.
فوائد التوبة وبرکاتها: في التوبة
فوائد کثيرة وبرکات عديدة، منها:
اوّلا: انها تکفر السيئات، وتجعل التائب
من الذنب کمن لا ذنب له : قال
تعالی:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا
إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾([18]) وقال
النبی @ :”التائب
من الذنب کمن لا ذنب له“([19])
ثانيا: التوبة لا تکفر السيئات فقط ، بل
لو تاب الانسان توبة خالصة ، وآمن وعمل صالحا فان الله يبدل
سيئاته حسنات: قال
الله تعالی:﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ
يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾([20])
ثالثا: فيها الفلاح والنجاة: قال
الله تعالی
: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ
الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([21]) وقال
: ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾([22])
رابعا: بالتوبة والاستغفار يرحم الله
العباد ، فيمدهم بأموال
وبنين، وينزل الغيث ، ويذهب بالقحط والجدب : قال
الله تعالی
علی لسان نوح عليه السلام: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا
(10)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا
(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ أَنْهَارًا﴾([23])
خامسا: بالتوبة يرد العذاب والعقاب : قال
الله تعالی:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾([24]) وقال:
﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا
لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾([25])
سادسا: ان الله يفرح
بتوبة العبد اشد الفرح : فقد روی مسلم عن انس بن مالك
قال : قال رسول الله :”لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ
إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاَةٍ فَانْفَلَتَتْ
مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ
فِى ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا
قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ
أَنْتَ عَبْدِى وَأَنَا رَبُّكَ , أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ “([26])
سابعا: التائب محبوب عند الله: کما صرّح
بذلك سبحانه
وتعالی فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾([27])
فثبت بهذه الأدلة
الصحيحة ان التوبة لها شان عظيم ، ولها ثمرات کثيرة وفوائد جليلة.
الذنوب التي تفيد فيها التوبة: بقي هناك
سؤال ، وهو: ما هي الذنوب والمعاصي التي تفيد فيها التوبة؟ والجواب ان التوبة اذا
کانت خالصة ونصوحا فانها تفيد في جميع المعاصي والذنوب ، فاذا تاب العبد واشتملت
توبته علی
جميع الشروط فانها تکفر جميع السيئات والمعاصي حتی الشرك والکفر والقتل والزنا، قال
الله تعالی:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ([28]) وقال:﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ ([29]) وروی
مسلم[30] عن ابن
عباس : أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ
قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا -صلى الله
عليه وسلم- فَقَالُوا إِنَّ الَّذِى تَقُولُ وَتَدْعُو لَحَسَنٌ وَلَوْ تُخْبِرُنَا
أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَ : ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا
فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا﴾
([31]) وَنَزَلَ ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ ([32])
وعن ابي سعيد الخدری أن النبي
@ قال:” كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ
نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ
إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ فَقَالَ لاَ.
فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ
عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ
فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ
كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ
وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا
نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ
وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً
بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ
خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِى صُورَةِ آدَمِىٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ
قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ.
فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِى أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ
الرَّحْمَةِ “[33] ، وفي
رواية في
الصحيح :” فَكَانَ إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ أَقْرَبَ مِنْهَا بِشِبْرٍ
فَجُعِلَ مِنْ أَهْلِهَا
“[34] وفي رواية في
الصحيح:” فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ
أَقْرَبُ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ“[35]
وعن بريدة رضی الله عنه ان
ماعز بن مالك الاسلمي أتی
رسول الله @ فقال
: يا رسول الله! اني
ظلمت نفسي وزنيت ، واني أريد ان
تطهرني ،
فرده ،
فلما کان من الغد أتاه ،
فقال: يا رسول الله اني قد زنيت، فرده الثانية
، فأرسل
رسول الله @ الی
قومه فقال
: اتعلمون بعقله بأسا ؟
تنکرون منه شيئا؟
قالوا: ما نعلمه الا
وفيّ العقل من صالحينا فيما نری، فأتاه
الثالثة، فارسل اليهم ايضا، فسأل عنه
فاخبروه انه لا بأس به ولا
بعقله ،
فلما کان الرابعة حفر له حفرة
ثم أمر به فرجم.
قال: فجاءت الغامدية فقالت يا رسول الله اني
زنيت فطهرني ،
وانه ردها
، فلما کان الغد قالت يا رسول الله لِمَ
تردني، لعلي تريد ان تردني کما رددت ماعزا، فوالله اني
لحبلی, قال : اما الآن فاذهبي حتی تلدي، قال : فلما ولدت اتته بالصبي
في خرقة ، وقالت: هذا ولدته قال:
اذهبي فأرضعيه حتی
تفطميه، فلما
فطتمه أتته بالصبي
وفي يده کسرة خبز،
فقالت : هذا يا رسول الله قد
فطمته وقد
اکل الطعام ، فدفع الصبي الی رجل من المسلمين ، ثم امر لها فحفر لها الی صدرها وامر
الناس فرجموها ،
فاقبل خالد بحجر فرمي رأسها ،
فتنضخ الدم علی وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله سبه اياها ،
فقال: مهلا يا خالد ! فوالذي نفسي بيده لقد
تابت توبة لوتابها مکس لغفر له ثم
امر بها فصلي عليها ودفنت“([36])
وعن عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنهما
ان امرأة من جهينة
اتت رسول الله @ وهي
حبلی من الزنا، فقالت: يا رسول الله :اصبت
حدا فأقمه عليّ،
فدعا النبي @ وليها
فقال: احسن اليها، فاذا وضعت فاتِني، ففعل فأمر بها
نبي الله @ فشدت
عليها ثيابها، ثم امر بها فرجمت ، ثم صلي عليها ، فقال له عمر :
تصلي عليها يا رسول الله وقد
زنت؟ قال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من اهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت
افضل من ان جادت بنفسها لله عزوجل“([37])
شروط التوبة: ان لقبول التوبة
شروطا لا بد من تحققها، فان کانت المعصية بين العبد وبين الله تعالی
، لا يتعلق بحق آدمي ، فلها ثلاثة شروط: احدها: ان يقلع عن المعصية ، والثاني: ان يندم
علی فعلها ، والثالث: ان يعزم أن لا يعود
اليها ابدا ، فان فقد احد الثلاثةلم تصح توبته.
وان کانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها اربعة ، هذه
الثلاثة، وان يبرأ من حق صاحبها ، فان کان مالا أو نحوه رده اليه ، وان
کان حد قذف ونحوه مکنه منه أو طلب
عفوه ، وان
کانت غيبة استحله منها.
والأدلة لهذه
الشروط کثيرة، مثل قوله تعالی
: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً
أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾([38]) وقوله
تعالی: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ
إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا
لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾([39]) وقال
تعالی: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا
يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾([40])
وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا
مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ﴾([41]) وقال:﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾([42]) وقال
:﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ
فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾([43]) وقال:
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾([44]) وقال
: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ
خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وقال النبي @: ”ان
صاحب الشمال ليرفع القلم ستّ ساعات عن العبد المسلم المخطيء ، فان ندم واستغفر الله منها
ألقاها
، والا کتبت واحدة“ رواه
الطبراني في الکبير والبيهقي في شعب الايمان وحسنه
الالباني([45])
وقال @ :”الندم
التوبة“ رواه احمد
وابن ماجة وسنده صحيح([46]) وقال
@ : ”من
کانت له مظلمة
لأخيه من
عرضه أو شيء فليتحلله منها
اليوم ، قبل ان لا يکون دينار ولا درهم، ان کان له عمل
صالح أخذ منه بقدر
مظلمة وان لم يکن له حسنات أخذ من
سئيات صاحبه فحمل
عليه.([47])
وايضا يشترط لقبول التوبة أن تکون قبل الغرغرة، (والغرغرة:الصوت
الذي يخرج من الحلق عند سحب الروح) وکذلك يشترط ان تکون قبل طلوع الشمس من مغربها
،لقوله @ :”ان
الله يقبل
توبة العبد مالم يغرغر“([48]) ولقوله @ :”ان
الله يبسط يده بالليل
ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار
ليتوب مسیء الليل حتی تطلع الشمس من مغربها“([49])
عن ابي موسی الاشعري، وعن ابي هريرة قال: قال رسول الله @: ”من
تاب قبل ان تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه“([50])
وذکر بعض اهل العلم تفصيلات اخری لشروط
التوبة وکمالها مثل:
١- ان يکون التائب ترك الذنب لله وحده ، لا
لشيء آخر
،کعدم القدرة أو خوف
کلام الناس ونحو ذلك ، فلا يسمي تائبا من ترك السرقة لانه لم يجد
منفذا للبيت، أولم يستطع
فتح الخزينة أو خشي
الحارس والشرطي ، ولا يسمی تائبا من ترك شرب الخمر وتعاطي المخدرات لافلاسه، ولا يسمی
تائبا من ترك الذنوب لأنها
تؤثر علی جاهه وسمعته بين
الناس أو ربما
طرد من وظيفته.
٢- وان تکون التوبة مع العلم والشعور
بقبح الذنب وضرره ، لانه اذا
لم يکن عالما لقبحها فلا يبعد ان يرجع الی المعصية مرة أخری.
٣- ان يخشی علی توبته من
النقص وعدم القبول ، ولا يجزم بأنها
قبلت فيأمن مکر الله وعذابه.
٤- أن يفارق
قرنائه وخلطا
ئه المقيمين
علی هذه المعصية ،
لئلا يوقعوه في هذه المعصية مرة
اخری, فهناك حالات کثيرة رجع فيها أشخاص الی المعصية بأعادة
العلاقات مع قرناء الماضي السوء.
٥-ان يفارق موضع المعصية اذا
کان وجوده فيه قد يوقعه في
المعصية مرة
اخری.
٦- أن يختار
من الرفقاء الصالحين من يعينه علی
نفسه ، ويکون
بديلا عن رفقاء السوء ، وأن يحرص
علی مجالس العلم وحلق الذکر ، ويملأ وقته بما يفيد
حتی لا يجد الشيطان لديه فراغا
ليذکره
بالماضي, وهذه
الثلاثة مأخوذة
من حديث قاتل المائة ، فان فيه ”انطلق
الی أرض کذا وکذا ، فان بها أناسا
يعبدون الله تعالی
، فاعبد الله معهم
، ولا ترجع الی أرضك فانها أرض سوء“.
٧- اتلاف المحرمات الموجودة عنده ، مثل
المسکرات وآلات اللهو ،کالعود والمزمار، والصور المحرمة، والقصص الماجنة ، فان
ابقاء هذه
المحرمات عنده قد يکون
سببا في نکوصه ورجوعه عن
التوبة ، وضلاله بعد
الهدی.
٨- الاکثار من الحسنات والطاعات المختلفة
فعن ابي بکر قال : سمعت رسول الله @ يقول
: ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي رکعتين ثم يستغفر الله الا
غفرالله له“رواه اصحاب
السنن([51])
وثبت ان عمر بن الخطاب لمّا احسّ بخطئه في
المناقشة مع رسول الله @ في غزوة حديبية عمل
لذلك اعمالا صالحا ت لتکفير الذنب, وفي الحديث الصحيح أن رسول الله @ قال :”ان
مثل الذي يعمل السئيات ثم يعمل الحسنات کمثل رجل کانت عليه درع ضيقة
قد خنقته ثم
عمل حسنة فانفکت حلقة ، ثم عمل اخری فانفکت الاخری ، حتی يخرج الی الارض“ رواه
الطبراني في الکبير.([52]) وعن
ابن مسعود @ قال
:جاء رجل الی النبي @
فقال : يا رسول الله اني وجدت امرأة في
بستان ففعلت بها کل شيء غير أني لم اجامعها ، قبلتها ولزمتها ، ولم افعل غير ذلك
فافعل بي ما شئت ، فلم يقل الرسول الله @ شيئا
، فذهب الرجل ، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو
ستر نفسه ، فأتبعه رسول
الله @ بصره ، ثم
قال :”ردوه عليّ “
فردوه عليه فقرأ
عليه: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ فقال
معاذ: وفي رواية:
عمر: يارسول الله اله وحده ام
للناس کافة؟ فقال: ”بل للناس کافة“([53])
هذه کلمة
مختصرة في التوبة : معناها وحکمها
واهميتها وثمراتها والمعاصي التي تفيد فيها وشروطها ومکملاتها ، اسأل الله ان يجعلها
نافعة لنا ويرزقنا التوبة النصوح. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب
العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق